فِيهِنَّ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌۭ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّۭ
﴿٥٦﴾سورة الرحمن تفسير القرطبي
قِيلَ : فِي الْجَنَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ . قَالَ الزَّجَّاج : وَإِنَّمَا قَالَ : " فِيهِنَّ " وَلَمْ يَقُلْ فِيهِمَا , لِأَنَّهُ عَنَى الْجَنَّتَيْنِ وَمَا أُعِدَّ لِصَاحِبِهِمَا مِنْ النَّعِيم . وَقِيلَ : " فِيهِنَّ " يَعُود عَلَى الْفُرُش الَّتِي بَطَائِنهَا مِنْ إِسْتَبْرَق , أَيْ فِي هَذِهِ الْفُرُش " قَاصِرَات الطَّرْف " أَيْ نِسَاء قَاصِرَات الطَّرْف , قَصَرْنَ أَعْيُنهنَّ عَلَى أَزْوَاجهنَّ فَلَا يَرَيْنَ غَيْرهمْ . وَقَدْ مَضَى فِي " وَالصَّافَّات " وَوُحِّدَ الطَّرْف مَعَ الْإِضَافَة إِلَى الْجَمْع لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَر , مِنْ طَرَفَتْ عَيْنه تَطْرِف طَرْفًا , ثُمَّ سُمِّيَتْ الْعَيْن بِذَلِكَ فَأَدَّى عَنْ الْوَاحِد وَالْجَمْع , كَقَوْلِهِمْ : قَوْم عَدْل وَصَوْم .
أَيْ لَمْ يُصِبْهُنَّ بِالْجِمَاعِ قَبْل أَزْوَاجهنَّ هَؤُلَاءِ أَحَد , الْفَرَّاء : وَالطَّمْث الِافْتِضَاض وَهُوَ النِّكَاح بِالتَّدْمِيَةِ , طَمَثَهَا يَطْمِثهَا وَيَطْمُثُهَا طَمْثًا إِذَا اِفْتَضَّهَا . وَمِنْهُ قِيلَ : اِمْرَأَة طَامِث أَيْ حَائِض . وَغَيْر الْفَرَّاء يُخَالِفهُ فِي هَذَا وَيَقُول : طَمَثَهَا بِمَعْنَى وَطِئَهَا عَلَى أَيّ الْوُجُوه كَانَ . إِلَّا أَنَّ قَوْل الْفَرَّاء أَعْرَفُ وَأَشْهَرُ . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ " لَمْ يَطْمُثْهُنَّ " بِضَمِّ الْمِيم , يُقَال : طَمَثَتْ الْمَرْأَة تَطْمُثُ بِالضَّمِّ حَاضَتْ . وَطَمِثَتْ بِالْكَسْرِ لُغَة فَهِيَ طَامِث , وَقَالَ الْفَرَزْدَق : وَقَعْنَ إِلَيَّ لَمْ يُطْمَثْنَ قَبْلِي وَهُنَّ أَصَحُّ مِنْ بَيْض النَّعَام وَقِيلَ : " لَمْ يَطْمِثهُنَّ " لَمْ يَمْسَسْهُنَّ , قَالَ أَبُو عَمْرو : وَالطَّمْث الْمَسّ وَذَلِكَ فِي كُلّ شَيْء يُمَسّ وَيُقَال لِلْمَرْتَعِ : مَا طَمَثَ ذَلِكَ الْمَرْتَعَ قَبْلنَا أَحَدٌ , وَمَا طَمَثَ هَذِهِ النَّاقَة حَبْل , أَيْ مَا مَسَّهَا عِقَال . وَقَالَ الْمُبَرِّد : أَيْ لَمْ يُذَلِّلهُنَّ إِنْس قَبْلهمْ وَلَا جَانّ , وَالطَّمْث التَّذْلِيل . وَقَرَأَ الْحَسَن " جَأَنّ " بِالْهَمْزَةِ . الثَّالِثَة : فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْجِنّ تَغْشَى كَالْإِنْسِ , وَتَدْخُل الْجَنَّة وَيَكُون لَهُمْ فِيهَا جِنِّيَّات . قَالَ ضَمْرَة : لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ أَزْوَاج مِنْ الْحُور الْعِين , فَالْإِنْسِيَّات لِلْإِنْسِ , وَالْجِنِّيَّات لِلْجِنِّ . وَقِيلَ : أَيْ لَمْ يَطْمِث مَا وَهَبَ اللَّه لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْجِنّ فِي الْجَنَّة مِنْ الْحُور الْعِين مِنْ الْجِنِّيَّات جِنٌّ , وَلَمْ يَطْمِث مَا وَهَبَ اللَّه لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْإِنْس فِي الْجَنَّة مِنْ الْحُور الْعِين مِنْ الْإِنْسِيَّات إِنْسٌ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِنّ لَا تَطَأ بَنَات آدَم فِي الدُّنْيَا . ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ . قُلْت : قَدْ مَضَى فِي " النَّمْل " الْقَوْل فِي هَذَا وَفِي " الْإِسْرَاء " أَيْضًا , وَأَنَّهُ جَائِز أَنْ تَطَأ بَنَات آدَم . وَقَدْ قَالَ مُجَاهِد : إِذَا جَامَعَ الرَّجُل وَلَمْ يُسَمِّ اِنْطَوَى الْجَانّ عَلَى إِحْلِيله فَجَامَعَ مَعَهُ فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " لَمْ يَطْمِثهُنَّ إِنْس قَبْلهمْ وَلَا جَانّ " وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصَفَ الْحُور الْعِين بِأَنَّهُ لَمْ يَطْمِثهُنَّ إِنْس قَبْلهمْ وَلَا جَانّ . يُعْلِمك أَنَّ نِسَاء الْآدَمِيَّات قَدْ يَطْمِثهُنَّ الْجَانّ , وَأَنَّ الْحُور الْعِين قَدْ بَرِئْنَ مِنْ هَذَا الْعَيْب وَنُزِّهْنَ , وَالطَّمْث الْجِمَاع . ذَكَرَهُ بِكَمَالِهِ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم , وَذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ أَيْضًا وَالثَّعْلَبِيّ وَغَيْرهمَا وَاَللَّه أَعْلَمُ .